كيف ألحدت؟ لفصل الثاني: مناقشة حجج وجود الإله
ر الإسلامي عدنان إبراهيم - الذي يدعي الإذعان للعقل و
العلم - بتصريحه السمج بأنه ذات مرة ساعده صوت داخلي في استحضار حديث نسي
موضعه، فدله الصوت الملائكي على صفحته من كتاب لم يسبق أن قرأه فيه، إنه
الإلهام الإلهي كما يصرّح الشيخ في فيديو على اليوتوب، إنها اليد الإلهية
التي تدخلت أول مرة فخلقت العالم، هاهي اليوم تتدخل فتساعد شيخا و من يدري
لعلها تتدخل فتمحو ما أكتبه الآن!!( وتاريخ العلم حافل بالإنجازات التي
أغلقت أفواه رجال الدين بتفسيراتهم الغيبية لكثير من الظواهر، فقبل نيكولا
كوبيرنيكوس كان رجال الكنيسة يتبجحون بأن الكون يدور حول هذه الأرض التي
جعلها الله مركزا تجسدت فيه الذات الإلهية إنسانا، وقبل إدموند هالي كانت
المذنّبات " رجوما للشياطين "، وقبل فرويد كانت الأحلام إلهامات إلاهية أو
نزغات شيطانية!! ذلك أن العلم ينزع دائما، بعبارة ماكس فيبر، إلى نزع
السحر، فيما ينزع الدين إلى إضفاء الدهشة على الظاهرة الطبيعية، ليتمكن من
تفسيرها تفسيرا غيبيا متعاليا.
وهنا لا بد من إبداء ملاحظة عنَّتْ لي و أنا أقرأ عبارة دوكنز في السياق نفسه، يقول فيها:
"..حتى
لو أننا سمحنا لأنفسنا بالتبجح بأي شعوذة عبثية لإيجاد مُنْهٍ للتراجع
الزمني اللانهائي و أعطيناه اسما ما، لأننا ببساطة نحتاج واحدا، فليس هناك
أي سبب إطلاقا لمنح هذا الذي أنهينا به التراجع الزمني أيا من المواصفات
التي يتصف بها هذا الإله: القدرة الكلية، العلم الكلي، الرحمة، الخلق
الذكي، ناهيك عن الصفات الإنسانية كإجابة الدعاء و غفران الذنوب و قراءة
الأفكار.")23(
إنني ألاحظ خطأ ريتشارد في إطلاقه )فليس هناك
أي سبب إطلاقا(، لأننا حينما نفترض جدلا أن الله هو ختام السلسلة، فنحن
نفترض أيضا أنه خالق الكون أي موجده من العدم: و الخلق من العدم لا يتم إلا
بالقدرة الكلية و العلم الكليّ.. وهكذا إلى عدد من الصفات الإلهية.. بلغ
بها اللاهوت الأشعري مثلا سبعة، أو عشرين.. و بلغ بها غيرهم غير هذا
العدد.. وكما ترى، فحينما تدخل الدائرة اللاهوتية تمنح الخلقي امتيازا
مجانيا.
و بالرغم من ذلك فإنني أجد أن ذلك الافتراض ذو أهمية
بالغة من جهة أخرى، إذ إنه يطرح على الخلقيين سؤالا آخر: لنفرض جدلا أن علة
الكون الأولى هو الله، فعن أي إله تتكلمون: إله لا يمكن التعرف عليه؟ أم
إله بلا صفات؟ أم إله "غضوب متشنج"..؟ أم إله "متسامح ضعيف الشخصية يصلبه
البشر ليثبت أنه إله"..؟ أم إله "يمكر و يستهزئ و إذا أراد أن يدمر قرية
أمر مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرها تدميرا؟".. إلخ
فعن أيّ إله تتحدثون؟
لكن دوكنز ينتبه إلى ملاحظة أهمّ في السياق نفسه – و لو كان مسبوقا إليها – إذ يقول:
"
..و بالمناسبة فإن بعض علماء المنطق لاحظوا عدم إمكانية اجتماع موضوع
العلم الكلي و القدرة الكلية، حيث لو كان الله كليَّ المعرفة فهو يعرف
بالتأكيد و مسبقا كيف سيتدخل بقدرته الكلية ليغير مجرى التاريخ: هذا يعني
بأنه لا يستطيع تغيير رأيه بهذا الموضوع، فهو بالتالي ليس كلي القدرة.. "
)24(
يريد دوكنز لفت انتباهنا إلى نتيجة يوصل إليه التسلسل
المنطقي الذي يفرضه القول بعلية الله للكون، و هي تعارض صفتين أساسيتين من
صفات هذا الإله هما صفتا العلم المطلق و القدرة المطلقة. و قد حاول
اللاهوتيون منذ القديم التعرض لهذا التناقض و معالجته بشتى الطرق، حتى إن
منهم من أنكر إمكان اتصاف الله بأي صفة كفرقة المعتزلة في السياق الإسلامي.
لكنه في النهاية تعارض لا مناص منه.
3- الحجة الغائية:
أ- حجة النظم:
وهي من أقدم الحجج و توزعت بين الكتب المقدسة و بين عروض الفلاسفة
)25(، وخلاصتها أن في العالم نظاما وانسجاما وغائية، و أن الطبيعة نسق من
الوسائل و الغايات. و هذا كله يفترض علة عاقلة تولت هذا التدبير. )26( أي
أن العالم " صُنع عقلٍ كاملٍ توخى الخير و رتب كل شيء عن قصد" بعبارة
أفلاطون. )27(
و قد اعتمد اللاهوت القديم و القروسطوي على هذه
الحجة، فهذا القديس أوغسطين " يقول إن في الوجود نظاما وجمالا؛ وهذا الجمال
و النظام لا يصدر إلا عن موجد فنان هو الله")28 ( كما جعلها القديس توما
الإكويني خامس أدلته معتبرا إياها على وجهين: " أما الواحد فإننا نرى
الموجودات العاطلة من المعرفة تفعل لغاية، و هذا ظاهر من أنها تفعل دائما
أو في الأكثر على نهج واحد و بحيث تحقق الأحسن، مما يدل على أنها لا تبلغ
إلى الغاية اتفاقا بل قصدا؛ و ما يخلو من المعرفة لا يتجه إلى غاية ما لم
يوجه إليها من موجود عارف، فإذن يوجد موجود عاقل يوجه الأشياء الطبيعية
كلاً إلى غايته. و أما الوجه الآخر فهو أن جميع الكائنات منظمة فيما بينها
لانتفاع بعضها ببعض، والمتباينات لا تتفق في نظام واحد مالم تكن منظمة من
واحد." )29(
و أعاد باركلي صياغة هذه الحجة في إطار مشروعه
اللامادي، إذ بعد نفيه للأشياء المادية، و عدم اعترافه إلا بالأفكار، تساءل
عن مصدر هذه الأفكار، و "هنا يلجأ باركلي إلى الله، بيت القصيد عنده.. إن
الله عنده هو منشئ أفكارنا، و هو الذي يبثها في عقولنا.. " )30 ("و يستطرد
باركلي فيقول: إننا لسنا بحاجة إلى أن نثبت وجود الله بالمعجزات الخارقة
لقوانين الطبيعة، لأن ثبات هذه القوانين وانسجام الأفكار )و هي عنده قوانين
الطبيعة( وتنظيمها تدل على قوة الله أكثر مما تدل عليه الخوارق الشاذة" )
31(
كما أولت الكتب السامية أهمية كبرى لبرهان النظم هذا، فدعا
القرآن مثلا إلى التفكر في "الآيات الكونية"، فقال: «إن في خلق السموات
والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس
وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل
دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون»..
و الآيات في هذا الباب مشهورة.
و يمكن عموما اختصار هذه الحجة على الشكل التالي:
- العالم منظَّم و منسجم و له غاية.
- لكل منظَّم ) بالفتح( منظِّم )بالكسر(.
- إذن فلابد من علة عاقلة تولت صنع هذا النظام و الانسجام و قصدت تلك الغائية و هي الله.
و قد انتبه ديفيد هيوم إلى عدة عيوب في هذه الحجة، ضمن كتابه: «
محاورات في الدين الطبيعي » أهمها أن الغاية المزعومة للكون ليست دائما نحو
الأحسن و الأكمل، فـ " إذا صح وجود انسجام في بعض النواحي، فهناك أيضا
ألوان عديدة من البؤس و الشر." )32( و هنا لا بد من ملاحظة أن الحجة
الغائية بشكل عام و برهان النظم بشكل خاص يناقض الحجج العلية التي سبقت
مناقشتها، فإذا كانت حجة العلية تقوم على أساس أن العالم ممكن، فانٍ،
محتاج، ناقص؛ فإن الغائية تقوم على النقيض من ذلك على أساس أن الكون منظم و
مصمم تصميما مذهلا و منسجما..
لكن برهان النظم العتيق، ظلّ
يطور نفسه و يرقع ما يفضحه العقل و العلم من جسده العاري في محاولة يائسة
للبقاء، فرأى بعض اللاهوتيين أن النظم لا يعني الكمال بل يعني فقط الانسجام
و التعقيد. و بالرغم من ذلك، أفلا يحق لنا أن نتساءل: هل فعلا وراء كل شيء
منظَّم علة عاقلة منظِّمة؟ أليس الانتقاء الطبيعي - مثلا - علة عمياء وغير
عاقلة أنتجت كائنات حية في غاية التعقيد والتنظيم؟!
ثم إن أصحاب
البرهان الغائي هذا، يقعون في نفس المشكلة التي يطرحها برهان العلية لأنه "
إذا كان لا بد من البحث عن علة عاقلة لكل شيء، لوجب إذن أن نبحث عن علة
للإله نفسه" بعبارة ديفيد هيوم. )33(
إننا نفهم الآن لماذا أعتبر الفيلسوف المؤمن بيليز باسكال أن هذه الحجة لا تستطيع أن تقنع إلا المؤمنين! )34(
ب- حجة التصميم:
و قد صيغت الحجة الغائية بطريقة عصرية تحت مسمى حجة التصميم، تتلخص
في أن الأشياء في العالم و خاصة الأشياء الحية تبدو و كأنها مصممة، و لا
نعرف بوجود أشياء تبدو مصصمة إلا إذا كانت كذلك، و لذلك يجب أن يكون هناك
مصمم، و هو ما ندعوه بالإله. )35(
و حسب عبارة ريتشارد دوكنز
فإنه ربما أنه ليس في التاريخ أي تدمير لطريقة تفكير شائعة ببراهين ذكية
كالذي فعله داروين)*( بحجة التصميم. )36(
و سأعرض لهته الحجة و آلياتها في الفصل الرابع من هذا الباب.
*****
على أن من الفلاسفة من أنكر إمكان البرهان العقلي على وجود الإله، و لجأ إلى حجج غير عقلانية، كالحجة الأخلاقية لدى كنت،
4- الحجة الأخلاقية لدى إمانويل كنت:
و يمكن صياغتها هكذا:
• نحن نحكم بأن من الضروري أن يجازى الخير و يعاقب الشرير.
• لكن الطبيعة لا تجازي الخير و لا تعاقب الشرير.
• فمن الضروري إذن أن يكون فوق الطبيعة موجود عادل يجازي الخير و يعاقب الشرير. )37(
فبعد إنكار كنت إمكانية البرهنة على وجود الله بالبرهان العقلي،
حاول تشييد الإيمان على ما هو فوق العقل، على الأخلاق، و لكن يجب أن تكون
قاعدة الدين الأخلاقية مطلقة مستقلة بذاتها، غير مستمدة من التجربة الحسية
المعرضة للشك، و ألا يفسدها العقل ببحوثه وقضاياه، يجب أن تستمد القاعدة
الأخلاقية من باطن النفس مباشرة، و إذن فلا بد أن تكون لدينا مبادئ أخلاقية
فطرية تنشأ في الإنسان بطبيعته..)38(
لكن برهان كنت هذا يفترض
مسبقا - كما تلاحظ - وجود قاعدة أخلاقية فطرية في الإنسان، أو ما سماه في
خاتمة كتابه نقد العقل العملي: القانون الخلقي في باطن نفسي )39(، و هو
افتراض ميتافيزيقي و غير مطلق، وقد قدم دوكنز مجموعة من الأدلة الخُلفية
والبراهين المضادة تنفي عن هذا البرهان إطلاقيته التي ينطلق منها. )40(
و لا عجب أن رجال الدين في ألمانيا رفضوا هذا الإنقاذ – إنقاذ كنت
للدين من الزج به في ساحة العقل – واحتجوا عليه، و أرادوا أن ينتقموا
لأنفسهم من الفيلسوف، فأطلق كل منهم على كلبه اسم إمانويل كانط! )41(
و سأعود إلى هذه الحجة و أناقش حيثياتها في الفصل التاسع من هذا الباب.
5- حجج أخرى:
و إذا كانت الفلسفة قد قدمت حججها التي ذكرناها أعلاه، فإن هناك
أدلة أخرى لا تعتمد المناهج الفلسفية، كالأدلة التي يقتنع بها المؤمن
العادي، و يعزز بها إيمانه، و هي على العموم حجج شخصية، لاعقلانية، بل قد
يكون أصلها مرضا نفسيا أوعقليا لدى المعتقد بصحتها. و من أمثلتها: قضاء
الحوائج، الاستجابة للدعاء، ظهور العذراء، الرؤى و الأحلام، حالات الصرع و
الكلام أثناءه، ظهور البؤر الضوئية، سماع الأصوات الإلهية، التخاطر، الشفاء
بالقرآن، كرامات الأولياء، الرؤى الجماعية... و سأناقش بنية هذه الحجج و
مدى مصداقيتها، في الفصل الخامس من هذا الباب.
كما أن الكتب السامية قدمت مجموعة من الحجج لإثبات وجود الله. و سأخصص الفصل السادس من هذا الباب لمناقشة تلك الحجج و دحضها.
*****
خلاصة و مناقشة:
و الخلاصة أن من الفلاسفة من أقر بإمكان البرهان العقلي على وجود
الله، وأخذ بعدة براهين مثلما فعل: أرسطو و ابن سينا وتوما الإكويني، )42(
كالحجج الكونية و برهان النظم، و قد ثبت أنها كلها حجج تقوم على افتراض
ميتافيزيقي لإنهاء التسلسل وهو افتراض لا حاجة إليه مادام العلم يواصل
البحث في قضية بدء الكون.
و من الفلاسفة من أخذ ببرهان واحد مثل
أنسلم وديكارت )43(، متمثلا في الحجة الوجودية، و قد تبين أنه برهان بديهي
يفترض أن الوجود محمول يتصف بالكمال، و هو ما ظهر سقوطه.
و تعن
لي هنا ملاحظة أراها أساسية، و هي أن مستعرضي الأدلة العقلية لإثبات الإله -
و رغبة منهم في إفحامنا - يحاولون - في مغالطة مكشوفة - الإدلاء بها
مجتمعة، متناسين أن بعض هذه البراهين يتناقض مع بعض، فبرهان النظم مثلا،
ينطلق من التصميم البديع للكون و الانسجام البالغ حد الإعجاز، و هو بذلك
يتعارض مع براهين العلية التي تقوم على أساس افتقار العالم المادي للموجد و
نقصه وحاجته.. و برهان الحدوث يكون ضربا من التحذلق إذا لم يستعن ببرهان
الواجب و الممكن.. و لذلك كان المؤلهون يقدمون براهين جديدة كلما اكتشفوا
خللا منطقيا في البراهان السابق، فكان متأخرهم ينقض متقدمهم، جاء هذا على
لسان المؤله المعمم أحمد القبانجي، في نبرة عميقة من المرارة، فقد انتقل
العقل المؤله "من دليل الحركة لأرسطو إلى دليل الحدوث للمتكلمين وإلى دليل
الإمكان للفارابي وابن سينا نجد أن كل فئة من الفلاسفة أو المتكلمين تحاول
نقض ما سبق من أدلّة على وجود الباري تعالى للمدارس الفكرية الاخرى وإبراز
أوجه الخلل ونقاط الضعف فيها والاتيان بدليل عقلي جديد أقوى من سالفه،
فبعد أن نقض المتكلمون دليل الحركة لارسطو جاؤوا بدليل الحدوث زاعمين أنه
هو الحق الذي لا ريب فيه، ولكن فلاسفة الإسلام الذين لم يكونوا يوماً على
وئام مع المتكلمين لم يرق لهم ذلك وطعنوا في دليل الحدوث واكّدوا قصور
مقدماته عن اثبات المطلوب وأن احتياج المخلوقات الى خالق ليس هو بسبب
الحدوث بل الامكان، ولذلك ابتكروا دليل الامكان وزعموا ـ كما يقول ابن سينا
ـ انه دليل الصدّيقين، ثم جاء صدر المتألهين وأبان بعض وجوه الخلل المنطقي
في دليل الامكان وجاء بدوره بدليل الوجود الذي يقوم على نظرته في اصالة
الوجود وادّعى انه هو اللائق بأن يسمّى بدليل الصديقين، وجاء «كانت»
الالماني ونقض جميع الادلة المذكورة وأتى بالدليل الاخلاقي الذي أبطله
المتأخرون عنه، وهكذا كلّما جاءت امّة لعنت اختها.. وعلى هذا الاساس يمكن
أن يقال بأنه ما المانع من أن يقوم فلاسفة ومحققون في المستقبل بنقض ما
تبقى من الأدلّة المعتبرة؟ ومع وجود هذا الاحتمال فكيف يصح الوثوق بمثل هذه
الأدلّة التي نحتمل بطلانها على سبيل الاجمال؟ وهل يتفق أن تتوقف عملية
الاستدلال الفكري على أدلّة معينة مع ما نشاهده من دينامية مستمرة لحركة
العقل في استكشاف الحقائق في حركة الحياة؟" )44(
كما انتبه هذا
المفكر إلى أن كل البراهين العقلية على وجود الإله تتضمن خللا منطقيا قاتلا
إذ " لا يمكننا إثبات وجود الله ببرهان معتبر بحيث لا يكون الله موجوداً
في اى واحدة من مقدّماته؟ وطبيعي أن الله إذا لم يؤخذ في المقدمات فإنه لا
يظهر في النتيجة أيضاً. كمثال، إن زيدا إنسان ـ وكل إنسان متحرك. زيد
متحرك، نلاحظ أن زيداً قد اُخذ في الكبرى التي هي محط الاستدلال ـ بطريقة
ضمنية، فلو تعاملنا بهذه الصورة مع براهين وجود الله لما كانت مثمرة
منطقياً لأننا أخذناه مفروض الوجود في مرحلة سابقة، أو أخذنا شبيهه، وعلى
سبيل المثال عند ما يقال في برهان الحدوث أو النظم: أن لكل حادث علّة،
فالكون له علّة، نلاحظ أن العلّة المأخوذة في المقدمة هي غير العلّة
المأخوذة في النتيجة، لأن غاية ما تقرّره المقدمة المذكورة هي أن لكل حادث
علّة، وذلك من خلال مشاهداتنا العلمية في الخارج، ولكن هذه المشاهدات انما
تحكي عن علل حادثة ومتناهية دائماً وليست لها امتداد منطقي لتستوعب غير
المشاهد من هذه العلل، والعلّة المقصودة في النتيجة هي علّة لا متناهية (أي
الله)." )45(
و لذلك ترى أن الكثير من الفلاسفة و اللاهوتيين
قد "اطَّرح البراهين العقلية و الأخلاقية و آثر الإيمان المطلق الذي لا
يسأل على وجود الله برهانا كما فعل باسكال.." )46( و كييرغارد.. و لجأ
بعضهم إلى براهين غير عقلانية كالحجة الأخلاقية لدى كانت، أو برهان القديس
بونفنتورا الذي كان " يحلق في إشراق صوفي بعيد عن البرهان العقلي فالحياة
في نظره سفر إلى الحق، والطريق واضح إليه، دلنا عليه الإيمان و دفعنا الحب
إلى السير فيه. و الطريق إلى فيه مدارج ثلاثة: الأول هو الكشف عن آثار الله
في العالم المحسوس؛ و الثاني هو: تفقد الله في نفوسنا، و الثالث يجاوز
نطاق المخلوقات و ينفذ إلى النعيم في عليين عند الحضرة الإلهية" )47 (
****
و هاهنا ملاحظة منهجية للفيلسوف الألماني فريديريك
نيتشه (1844-1900) في غاية الذكاء، و هي أنه قد تكون "كل هذه الأنواع من
النقد ليست حاسمة. «فمن قبل كان المرء يسعى إلى أن يبرهن على أنه ليس ثمت
إله - و اليوم يبين المرء كيف أمكن أن ينشأ الاعتقاد بوجود إله، و إلى أي
شيء ترتد أهمية هذا الاعتقاد و قوة تأثيره. و في هذه الحالة يكون البرهان
الآخر على أنه ليس ثمت إله - يكون هذا البرهان سطحيا . ذلك لأنه عندما كان
المرء من قبل يفند البراهين القديمة على وجود الله، كان يظل هناك شك دائم
في احتمال كشف براهين أفضل من تلك التي فندتْ ». فالتفنيد التاريخي إذن هو
التفنيد الحاسم . و إذا استطاع الفيلسوف أن يثبت أن هذه الفكرة قد نشأت،
أعني أن لها أصلا تاريخيا أو نفسيا معينا. و أنها قد ظهرت لكي تفي بمقتضيات
إنسانية خاصة في ظروف معينة، فعندئذ يكون في نفس الوقت قد قضى على ما
تنطوي عليه الفكرة من ثبات و أزلية، و في هذا قضاء على الفكرة ذاتها." )48(
نعم إن البيان العلمي للأصل التاريخي لفكرة الإله، يفتت و إلى
الأبد، المقدس.. برده إلى أسبابه الاجتماعية والشخصية، كما فعل لودفيك
فيورباخ في كتابه ذائع الصيت: جوهر المسيحية، أو نيتشه نفسه في دراساته
المحكمة عن المسيحية. " و يمكن اعتبار مؤلف إيميل دوركهايم المسمى الأشكال
الأولية للحياة الدينية )1912( أبرز الأعمال المؤثرة في علم اجتماع الدين"
)49( وهو العلم الذي يدرس علاقة الدين بالمؤسسات المجتمعية.
ثم
إن العقل المؤمن لم يكتف بالإدلاء بهذه الحجج، بل حاول أن يسند اعتقاده هذا
بالرد على ما يسميه " بشبهات الملاحدة " فحاول أن يجيب على الأسئلة
الإشكالية التي طرحتُ أهمها في الفصل الأول من هذا الباب، لكن ردوده تلك
-والتي سأناقشها في الفصل الموالي- لم ترق إلى المستوى العلمي اللازم، إذ
كان أغلبها يغالط نفسه، و هو واع بأن تلك الأسئلة الوجودية الكبرى لا يمكن
الإجابة عليها إلا بنفي وجود الإله، أو نفي العقل، و قد تجلى ذلك بوضوح
تام في محاولة "المفكر الإسلامي" )*( عدنان إبراهيم ضمن سلسلة محاضرات
بعنوان: مطرقة البرهان و زجاج الإلحاد، إذ نجده يؤكد أنه:
" في نهاية
المطاف كل إيمان لا بد أن يكون فيه جزء للتسليم، و جزء..كرهان باسكال )50(
.. أما أن تقول إن الايمان سأبرره كله عقليا: فكلام فارغ. لا تستطيع، في
)هناك( شيء تسليمي في الأخير.. في حدس داخلي، في نور القلب، و هذا ضروري،
انتبه! كما قلت لك: إياك أن تتكئ إلى آخر المشوار على العقل وبراهين العقل
لازم )يجب أن( يكون )هناك( نور ذاتي: و من لم يجعل الله له نورا فما له من
نور" )51(
إنه النكوص إلى باسكال: الله لا يمكن إثبات وجوده عقليا.
-------
)*(
جعلت هذا الوصف بين شولتين لاعتقادي الجازم أنه لا يمكن أن يجتمع تفكير حر
و اعتقاد ديني ما، لكنني احتفظت به لأن الرجل به يقدم نفسه.
هوامش الفصل الثاني:
1- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - وكالة المطبوعات – الطبعة الأولى: 1984 ص: 217و218
2- ريتشارد دوكنز – وهم الإله - ت: بسام البغدادي – طبعة إلكترونية – ص: 82
3- يوسف كرم - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط - دار القلم - د.ت. ص: 87
4- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 219
5- ريتشارد دوكنز – وهم الإله - سبق ذكره - ص: 84
6- المرجع السابق، ص: 83
7- يوسف كرم - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط –سبق ذكره، ص-ص: 87-89
8- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 220
9- المرجع نفسه، ص: 222
10- ريتشارد دوكنز – وهم الإله - سبق ذكره، ص: 85
11- زكي نجيب محمود، و آخرون - الموسوعة الفلسفية المختصرة - دار القلم - د.ت، ترجمة كنت، ص: 336
12- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 222
13- المرجع السابق، ص- ص: 222-224
14- المرجع السابق، ص: 224/225
15- المرجع السابق، ص: 226
16- شرح الإشارات - الخواجه الطوسي – مكتبة موقع الوراق: 3، ص: 9-67
17- المرجع السابق.
18- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلي – تحقيق الآملي – مؤسسة نشر الإسلامي- ط: 1417 ص 305
19- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 222
20- المرجع السابق، ص: 226
21- ريتشارد دوكنز – وهم الإله - سبق ذكره، ص: 79
22- اسبينوزا - فؤاد زكريا - دار التنوير - 2008 ص: 133-134
23- ريتشارد دوكنز – وهم الإله - سبق ذكره، ص: 79-80
24- المرجع السابق، ص: 80
25- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 228
26- المرجع السابق، ص: 228
27- يوسف كرم - تاريخ الفلسفة اليونانية - دار القلم - د.ت. ص: 81
28- عبد الرحمن بدوي - فلسفة العصور الوسطى - مطبعة النهضة المصرية - الطبعة الثانية: 1969، ص27
29- يوسف كرم - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط –سبق ذكره، ص 177
30- دروس الفلسفة - محمد عابد الجابري و آخرون - دار النشر المغربية - ط: 1971، ص 76
31- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 228
32- قصة الفلسفة الحديثة - زكي نجيب محمود و أحمد أمين - لجنة التأليف و الترجمة و النشر - ط: 1936، ص:229
33- المرجع السابق: ص 244
34- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 230
35- ريتشارد دوكنز – وهم الإله - سبق ذكره، ص: 81
36- المرجع السابق و الصفحة نفسها.
37- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 230
38- أحمد أمين و زكي نجيب محمود - تاريخ الفلسفة الحديثة - سبق ذكره، ص: 296 و297
39- عبد الرحمن بدوي – موسوعة الفلسفة – المؤسسة العربية للدراسات و النشر – الطبعة 1/1984، ترجمة كنت.
40- ريتشارد دوكنز - وهم الإله - سبق ذكره، ص: 233-235
41- أحمد أمين و زكي نجيب محمود - تاريخ الفلسفة الحديثة - سبق ذكره، ص: 295
42- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 233
43- المرجع السابق و الصفحة نفسها.
44- أحمد القبانجي. نظرة عامة في براهين وجود الله : موقع الحوار المتمدن.
45- المرجع السابق و الصفحة نفسها.
46- عبد الرحمن بدوي – مدخل جديد إلى الفلسفة - سبق ذكره، ص: 233
47- عبد الرحمن بدوي - فلسفة العصور الوسطى - سبق ذكره، ص: يا من التصدير
48- نيتشه - فؤاد زكريا - مطبعة فضالة - الطبعة الثانية، ص: 132
49- علم الاجتماع - أنتوني غدنز - ترجمة: فايز الصياغ- المنظمة العربية للترجمة – الطبعة الرابعة، ص: 580
50- تجد شرحا مفصلا و ردا عميقا على رهان باسكال التافه هذا في: ريتشارد دوكنز - وهم الإله - سبق ذكره، ص 106- 108
51- عدنان إبراهيم - محاضرات بعنوان: مطرقة البرهان و زجاج الإلحاد - الشريط الثالث، الدقيقة: 26 وما بعدها. على موقعه الرسمي: http://www.adnanibrahim.net
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق