نشاة الكون: طبيعية أم ماورائية؟ [2]
فإمّا
أنّ نظرية النسبية العامة أو فيزياء الكم _أو كليهما_ ستحلّ محلّهما
قوانين جديدة، أو يتعطّلان خلال اللحظات الأولى من عمر الكون. لكنّ هذه
الحقيقة لاتمتّ بصلة لمسألة قانون مصونية الكتلة/الطاقة تحت أي ظرفٍ كان.
علاوةٌ على ذلك، أي تفنيد حقيقي لمصونية الكتلة/الطاقة سيرفد في النهاية
الاتجاه العلماني [وليس الديني أو اللاهوتي] في مجال علم الكونيات، بما أنّ
عملية ظهور الكتلة/الطاقة من العدم لن تتطلّب بعد الآن تفسيراً ماورائياً.
لنتحدّث الآن ضمن إطار الفيزياء النظرية البحتة، طبعاً من الخطأ السؤال: ((ماذا كان يوجد، أو ماذا حدث قبل الانفجار الكبير؟)) لأنّ ظهور الزمكان وبذلك ظهور مصطلحات ومفاهيم على غرار "قبل" و"بعد" مرتبط بشكل واضح ومعقّد بحضور وتمدّد الكتلة/الطاقة. كيف يمكن قياس الزمن من دون المادة وحركتها؟
لكن في سياق النقاش العلمي، فإنّ علماء الكوزمولوجيا برأيي لايجب أن يعترضوا بشدّة على تساؤلنا حول الذي كان أو حدث قبل "الانفجار الكبير"، لأنّ حَظرَ هذا السؤال يُفهَم من قبل الشخص العادي على أنّه محاولة للتملّص وتجنّب الإجابة عنه. ((أنت لاتمتلك إجابة، لذلك تمنع السؤال وتحظره)). في حين أنّنا لايجب أن نقدّم علوماً سطحية أو بالية فقط إرضاء ميول العوام، ولاينبغي أن نتجاهل حقيقة أنّ قوانيننا الفيزيائية الحالية إذا كانت تقدّم لنا جوابا مرضياً وكافياً للنشأة الكونية بدون الاستعانة بأيّة تفسيرات ماورائية ووكلاء غيبيون.
إذا لم نكن نخطّط للتساؤل ما الذي جرى أو كان قبل الانفجار الكبير، عندئذٍ فهذا التقييد المفروض علينا من قبل الفيزياء سيدعم النظرة العلمانية لعلم الكونيات، لأنّ الحاجة الضرورية للوجود المسبق لله لايمكن أخذها بعين الاعتبار ضمن سياق العلم/ ومن غير الممكن إثباتها عن طريق الوسائل العلمية والمنهج العلمي كما يزعم التكوينيون ويحاولون فعله.
# عقبات سيكولوجية
بالنسبة للغالبية منا، من الصعب تصوّر وجود أحجار البناء الأساسية لكوننا منذ الأزل، إنّها مسألة محيّرة ومربكة للعقل. في شؤون حياتنا اليومية، نلاحظ أنّ جميع الأشياء المادية المحيطة بنا لها امتداد لوجودها. فالسيارة الجديدة التي اشتريناها اليوم لم تكن موجودة قبل تصنيعها في المعمل، بل وتصميمها أيضاً على أيدي المصمّمين. الخضروات التي نأكلها اليوم لم تكن موجودة قبل عدّة أشهر، قبل موسم الزرع. حتى الكائن الإنساني يبدو وكأنّه قد تمّ خلقه في رحم أمّه. إذ يبدو الجنين كخلية مفردة، ومع ذلك فإنّه لدى ولادته يكون مؤلفاً من مليارات الخلايا ، وجميعها تبدو وكأنّها جاءت إلى الوجود بطريقة إعجازية، ولتؤدّي غرضاً مصمماً لها مسبقاً.
لاعجب إذن أنّ "حسّنا العام" يخبرنا بأنّ الكون نفسه لابد أن يكون له بداية، لذا لابد أنّه مخلوق من قبل الله. إنّ "حسّنا العام" مشكّل عن طريق ملاحظاتنا ومشاهداتنا للحوادث التي تجري من حولنا، فعملياً كل شيء نراه على الأرض يبدو أنّه جاء إلى الوجود، ثمّ يختفي لاحقاً ويزول إلى الأبد. ومع ذلك عندما ننظر إلى مسألة وجود الكون، دعونا نتذكّر نقطتين هامتين في غاية الأهمية: 1) إنّ مشاهدتنا وملاحظتنا لما يجري من حولنا من أحداث في هذا العالم لاتؤسّس بالضرورة داخل عقولنا "حسّنا العام" وتصوغ أحكامنا التي قد تنطبق على الكون ككل. 2) الملاحظة الدقيقة والحذرة لوقائع العالم ستبيّن لنا أنّ الأشياء والموجودات الأرضية لاتظهر من عدم كما يخبرنا "حسّنا العام".
العلم، بالتعريف، يقصي أفكار "الحسّ العام" ويضعها جانباً ويعتمد فقط على البيانات التجريبية لتأسيس القانون العلمي. ولا يهتمّ بتاتاً ما إذا كنا مرتاحين مع نتائج تجربتنا أو راضين عنها. فهذه النتائج التجريبية، إذا كانت قابلة للتكرار وقابلة للتأكيد من خلال تجارب مستقبلية، يجب القبول بها وأخذها بعين الاعتبار، بصرف النظر عن "حسّنا العام" ونظرياته التي تتناقض مع تلك النتائج التجريبية.
لنفترض على سبيل المثال أنّ إنساناً ما يقف وسط سهلٍ شاسع، وفوق أرض السهل على ارتفاع ستّة أقدام، وعلى مستوى خط النظر، يرفع مسدساً أفقياً متوازٍ تماماً مع أرض السهل، ليس مرتفعاً كثيراً ولا منخفض كثيراً، بل في وضع أفقي ومتوازي مع الأرض. في يده الأخرى، وعلى مستوى خط النظر أيضاً، يحمل الرجل كرة بولينغ زنتها 15 باونداً. لنفترض الآن أنّ الرجل يطلق النار من مسدّسه ويسقط الكرة من يده على الأرض في نفس اللحظة تماماً. فحسب حسّنا العام وحكمنا على أساسه، أي الجسمين سيصل إلى الأرض قبل الآخر: الرصاصة أم كرة البولينغ؟
هل توقّعتم أنّ كرة البولينغ هي التي ستلامس الأرض قبل الرصاصة؟ أغلب الناس سيفاجئون عندما يدركون ما اكتشفه غاليليو منذ أكثر من قرن مضى: أنّ جميع الأجسام تتسارع نحو الأرض بمعدّل واحد، بغضّ النظر عن أوزانها المختلفة أو قوة دفعها الآني باتجاه الأفق. بمعنى آخر، إذا لم تكن هناك عوامل خارجية متدخّلة بالتجربة فإنّ كرة البولينغ والرصاصة ستلامسان الأرض في نفس اللحظة. سواءٌ أكان "حسّنا العام" يشعر بالراحة والرضا بهذه النتيجة، فهاذ لايعني العلم في شيء.يجب القبول بالنتائج التجريبية للتجربة. وبنفس الشكل، تتطلّب المواقف العقلانية والعلمية منّا القبول بالنتائج الكوزمولوجية لقانون مصونية الكتلة/الطاقة سواء رضينا بذلك أم لا.
غالباً، قد يضلّلنا "حسّنا العام" ويقدونا نحو سبل خاطئة إذا استخدمناه في عملية تأسيس القانون العلمي. أغلب المفكّرين قبل عصر النهضة كانوا يعتقدون أنّه من الطبيعي ومن السليم الاعتقاد بسطحية الأرض وسكونها. ولو أنّه تمّ اختبار نظريتي آينشتاين في النسبية العامة والخاصة عن طريق الحس العام، لتمّ تحويل آينشتاين إلى مصحّ عقلي. أسألكم: أين الحس العام في مسألة تأخّر الزمن وتراجعه أو مسألة قابلية الفضاء للانحناء والانطواء التي تحدّث عنها آينشتاين؟ إنّ الأفكار القائمة على أساس الحس العام وحده ليست جديرة بالاستخدام والاعتماد في مجال العلم، وغير مجدية على الإطلاق.
علاوةً على ذلك، كما سبق وناقشنا خلال هذا المقال، إنّ قانون مصونية الكتلة/الطاقة يبيّن بأنّ الحوادث الواقعة محلياً على مستوى العالم أو كونياً على مستوى الكون ككل لاتنتج _ولا يمكنها ذلك_ مادةً وطاقةً من العدم. من غير الصحيح علمياً القول بأنّ شركة فورد للمحركات قد صنعت السيارات، إذ من الواضح أنّ المواد الخام الموجودة مسبقاً هي التي تدخل في عملية التصنيع. يمكننا القول، بشكلٍ أدق وأكثر صحةً، أنّ شركة فورد تجمّع السيارات وتركّبها من أجزاء وقطع مكوّنة، أجزاء مصنوعة من مواد خام موجودة مسبقاً في الطبيعة. يعلّمنا العلم أنّ العناصر الأعلى التي تدخل الآن في تركيب أجسادنا هي نفسها مكوّنة من عنصر الهدروجين البدائي الذي تشكّل داخل الأفران النووية الضخمة في قلب النجوم. وبكلمات العالم كارل ساغان، أنا وأنتم مكوّنين من "مواد نجمية". وبطريقة أكثر واقعية، أنتم وأنا، مثل كوننا المكوّن من كتلة/طاقة، موجودون دوماً ومنذ الأزل، لكن ربما بطريقة مختلفة.
# خلاصة
ما النتيجة التي نتوصّل إليها عن الكون ماقبل زمن الانفجار الكبير؟
حسب قوانين الفيزياء الحالية، الكتلة/الطاقة، اللتان أطلقتا عملية التوسّع والتمدّد الجارية للكون لحظة الانفجار الكبير، كانتا موجودتان قبل الانفجار الكبير، قام القمر الصناعي كوب COBE التابع لوكالة ناسا بجمع بيانات ومعلومات تدعم فكرة "النموذج المتضخّم" للكون inflanationary model. ومن بين النتائج النظرية الأخرى، يقترح نموذج الكون المتوسّع أنّ الكثافة المادية للكون _أي المجموع أو الكمية الكلية للمادة المشتّتة والموزّعة في أرجاء الكون_ قد تكون كافية في النهاية لإيقاف عملية التمدّد الحالية للكون عن طريق الجذب الثقالي. عندها سيبدأ الكون بالانحسار والانهيار على ذاته، ومن خلال الجذب الثقالي في النهاية، ستتجمّع المادة والطاقة مع بعضهما وستنضغطان ضمن نقطة مفردة متاخمة رجوعاً إلى الوراء إلى لحظة الانفجار الكبير. وقد أطلق العلماء على هذا الانهيار الكوني الهائل اسم "الانكماش الكبير Big Crunch".
في لحظة الانكماش الكبير، يعتقد أغلب العلماء أنّ الكتلة/الطاقة اللتان تكوّنان كوننا ستندمجان مع بعضهما وتنفجران مجدداً لتشكيل انفجار كبير آخر. هذه النظرية _أنّ الكون المضغوط والمحصور في حيّز صغير من المكان سيندمج_ تقوم أساساً على فهمنا لظاهرة السوبرنوفا، التي تنهار على ذاتها، تتراجع أو تنكمش نحو الخلف. ثمّ تنفجر باستعار.
هناك نماذج نظرية أخرى وأحدث يبدو أنّها تشير إلى أنّ الكون قد يستمرّ في تمدّده إلى الأبد، إلى ما لانهاية، ولا ينكمش أو ينهار. برأيي الخاص، الذي يستحق وقفة للتأمّل، حتى يقدّم لنا علماء الفلك والكوزمولوجيا تفاصيل دقيقة ووافية عن طبيعة ونوعية وكمية مايسمى عادةّ بـ"المادّة المظلمة Dark Matter" و"الطاقة المظلمة Dark energy" _واللتان تشكّلان حوالي 90% من مجمل الكتلة/الطاقة في الكون_ لايحق لأي عالم الزعم والادعاء بأنّه يمتلك "الجواب النهائي" لهذا اللغز. في الوقت الحالي، ربما يكون الكون مازال في خضمّ المراحل الأولية في عملية توسّعه، أو ربّما يكون قد توسّع وانهار على نفسه ملايين ومليارات المرات قبل حالته الحالية. فبالرغم من أننا في فجر القرن الحادي والعشرين، مازالنا لانعرف شيئاً. لكن يمكننا أن نتوصّل لنتيجة _اعتماداً على قوانيننا الفيزيائية الحالية_ مفادها أنّ كوننا المكوّن من كتلة/طاقة أقد بكثير وبشكل لامتناهي ممّا يعتقده أغلب البشر.
لنتحدّث الآن ضمن إطار الفيزياء النظرية البحتة، طبعاً من الخطأ السؤال: ((ماذا كان يوجد، أو ماذا حدث قبل الانفجار الكبير؟)) لأنّ ظهور الزمكان وبذلك ظهور مصطلحات ومفاهيم على غرار "قبل" و"بعد" مرتبط بشكل واضح ومعقّد بحضور وتمدّد الكتلة/الطاقة. كيف يمكن قياس الزمن من دون المادة وحركتها؟
لكن في سياق النقاش العلمي، فإنّ علماء الكوزمولوجيا برأيي لايجب أن يعترضوا بشدّة على تساؤلنا حول الذي كان أو حدث قبل "الانفجار الكبير"، لأنّ حَظرَ هذا السؤال يُفهَم من قبل الشخص العادي على أنّه محاولة للتملّص وتجنّب الإجابة عنه. ((أنت لاتمتلك إجابة، لذلك تمنع السؤال وتحظره)). في حين أنّنا لايجب أن نقدّم علوماً سطحية أو بالية فقط إرضاء ميول العوام، ولاينبغي أن نتجاهل حقيقة أنّ قوانيننا الفيزيائية الحالية إذا كانت تقدّم لنا جوابا مرضياً وكافياً للنشأة الكونية بدون الاستعانة بأيّة تفسيرات ماورائية ووكلاء غيبيون.
إذا لم نكن نخطّط للتساؤل ما الذي جرى أو كان قبل الانفجار الكبير، عندئذٍ فهذا التقييد المفروض علينا من قبل الفيزياء سيدعم النظرة العلمانية لعلم الكونيات، لأنّ الحاجة الضرورية للوجود المسبق لله لايمكن أخذها بعين الاعتبار ضمن سياق العلم/ ومن غير الممكن إثباتها عن طريق الوسائل العلمية والمنهج العلمي كما يزعم التكوينيون ويحاولون فعله.
# عقبات سيكولوجية
بالنسبة للغالبية منا، من الصعب تصوّر وجود أحجار البناء الأساسية لكوننا منذ الأزل، إنّها مسألة محيّرة ومربكة للعقل. في شؤون حياتنا اليومية، نلاحظ أنّ جميع الأشياء المادية المحيطة بنا لها امتداد لوجودها. فالسيارة الجديدة التي اشتريناها اليوم لم تكن موجودة قبل تصنيعها في المعمل، بل وتصميمها أيضاً على أيدي المصمّمين. الخضروات التي نأكلها اليوم لم تكن موجودة قبل عدّة أشهر، قبل موسم الزرع. حتى الكائن الإنساني يبدو وكأنّه قد تمّ خلقه في رحم أمّه. إذ يبدو الجنين كخلية مفردة، ومع ذلك فإنّه لدى ولادته يكون مؤلفاً من مليارات الخلايا ، وجميعها تبدو وكأنّها جاءت إلى الوجود بطريقة إعجازية، ولتؤدّي غرضاً مصمماً لها مسبقاً.
لاعجب إذن أنّ "حسّنا العام" يخبرنا بأنّ الكون نفسه لابد أن يكون له بداية، لذا لابد أنّه مخلوق من قبل الله. إنّ "حسّنا العام" مشكّل عن طريق ملاحظاتنا ومشاهداتنا للحوادث التي تجري من حولنا، فعملياً كل شيء نراه على الأرض يبدو أنّه جاء إلى الوجود، ثمّ يختفي لاحقاً ويزول إلى الأبد. ومع ذلك عندما ننظر إلى مسألة وجود الكون، دعونا نتذكّر نقطتين هامتين في غاية الأهمية: 1) إنّ مشاهدتنا وملاحظتنا لما يجري من حولنا من أحداث في هذا العالم لاتؤسّس بالضرورة داخل عقولنا "حسّنا العام" وتصوغ أحكامنا التي قد تنطبق على الكون ككل. 2) الملاحظة الدقيقة والحذرة لوقائع العالم ستبيّن لنا أنّ الأشياء والموجودات الأرضية لاتظهر من عدم كما يخبرنا "حسّنا العام".
العلم، بالتعريف، يقصي أفكار "الحسّ العام" ويضعها جانباً ويعتمد فقط على البيانات التجريبية لتأسيس القانون العلمي. ولا يهتمّ بتاتاً ما إذا كنا مرتاحين مع نتائج تجربتنا أو راضين عنها. فهذه النتائج التجريبية، إذا كانت قابلة للتكرار وقابلة للتأكيد من خلال تجارب مستقبلية، يجب القبول بها وأخذها بعين الاعتبار، بصرف النظر عن "حسّنا العام" ونظرياته التي تتناقض مع تلك النتائج التجريبية.
لنفترض على سبيل المثال أنّ إنساناً ما يقف وسط سهلٍ شاسع، وفوق أرض السهل على ارتفاع ستّة أقدام، وعلى مستوى خط النظر، يرفع مسدساً أفقياً متوازٍ تماماً مع أرض السهل، ليس مرتفعاً كثيراً ولا منخفض كثيراً، بل في وضع أفقي ومتوازي مع الأرض. في يده الأخرى، وعلى مستوى خط النظر أيضاً، يحمل الرجل كرة بولينغ زنتها 15 باونداً. لنفترض الآن أنّ الرجل يطلق النار من مسدّسه ويسقط الكرة من يده على الأرض في نفس اللحظة تماماً. فحسب حسّنا العام وحكمنا على أساسه، أي الجسمين سيصل إلى الأرض قبل الآخر: الرصاصة أم كرة البولينغ؟
هل توقّعتم أنّ كرة البولينغ هي التي ستلامس الأرض قبل الرصاصة؟ أغلب الناس سيفاجئون عندما يدركون ما اكتشفه غاليليو منذ أكثر من قرن مضى: أنّ جميع الأجسام تتسارع نحو الأرض بمعدّل واحد، بغضّ النظر عن أوزانها المختلفة أو قوة دفعها الآني باتجاه الأفق. بمعنى آخر، إذا لم تكن هناك عوامل خارجية متدخّلة بالتجربة فإنّ كرة البولينغ والرصاصة ستلامسان الأرض في نفس اللحظة. سواءٌ أكان "حسّنا العام" يشعر بالراحة والرضا بهذه النتيجة، فهاذ لايعني العلم في شيء.يجب القبول بالنتائج التجريبية للتجربة. وبنفس الشكل، تتطلّب المواقف العقلانية والعلمية منّا القبول بالنتائج الكوزمولوجية لقانون مصونية الكتلة/الطاقة سواء رضينا بذلك أم لا.
غالباً، قد يضلّلنا "حسّنا العام" ويقدونا نحو سبل خاطئة إذا استخدمناه في عملية تأسيس القانون العلمي. أغلب المفكّرين قبل عصر النهضة كانوا يعتقدون أنّه من الطبيعي ومن السليم الاعتقاد بسطحية الأرض وسكونها. ولو أنّه تمّ اختبار نظريتي آينشتاين في النسبية العامة والخاصة عن طريق الحس العام، لتمّ تحويل آينشتاين إلى مصحّ عقلي. أسألكم: أين الحس العام في مسألة تأخّر الزمن وتراجعه أو مسألة قابلية الفضاء للانحناء والانطواء التي تحدّث عنها آينشتاين؟ إنّ الأفكار القائمة على أساس الحس العام وحده ليست جديرة بالاستخدام والاعتماد في مجال العلم، وغير مجدية على الإطلاق.
علاوةً على ذلك، كما سبق وناقشنا خلال هذا المقال، إنّ قانون مصونية الكتلة/الطاقة يبيّن بأنّ الحوادث الواقعة محلياً على مستوى العالم أو كونياً على مستوى الكون ككل لاتنتج _ولا يمكنها ذلك_ مادةً وطاقةً من العدم. من غير الصحيح علمياً القول بأنّ شركة فورد للمحركات قد صنعت السيارات، إذ من الواضح أنّ المواد الخام الموجودة مسبقاً هي التي تدخل في عملية التصنيع. يمكننا القول، بشكلٍ أدق وأكثر صحةً، أنّ شركة فورد تجمّع السيارات وتركّبها من أجزاء وقطع مكوّنة، أجزاء مصنوعة من مواد خام موجودة مسبقاً في الطبيعة. يعلّمنا العلم أنّ العناصر الأعلى التي تدخل الآن في تركيب أجسادنا هي نفسها مكوّنة من عنصر الهدروجين البدائي الذي تشكّل داخل الأفران النووية الضخمة في قلب النجوم. وبكلمات العالم كارل ساغان، أنا وأنتم مكوّنين من "مواد نجمية". وبطريقة أكثر واقعية، أنتم وأنا، مثل كوننا المكوّن من كتلة/طاقة، موجودون دوماً ومنذ الأزل، لكن ربما بطريقة مختلفة.
# خلاصة
ما النتيجة التي نتوصّل إليها عن الكون ماقبل زمن الانفجار الكبير؟
حسب قوانين الفيزياء الحالية، الكتلة/الطاقة، اللتان أطلقتا عملية التوسّع والتمدّد الجارية للكون لحظة الانفجار الكبير، كانتا موجودتان قبل الانفجار الكبير، قام القمر الصناعي كوب COBE التابع لوكالة ناسا بجمع بيانات ومعلومات تدعم فكرة "النموذج المتضخّم" للكون inflanationary model. ومن بين النتائج النظرية الأخرى، يقترح نموذج الكون المتوسّع أنّ الكثافة المادية للكون _أي المجموع أو الكمية الكلية للمادة المشتّتة والموزّعة في أرجاء الكون_ قد تكون كافية في النهاية لإيقاف عملية التمدّد الحالية للكون عن طريق الجذب الثقالي. عندها سيبدأ الكون بالانحسار والانهيار على ذاته، ومن خلال الجذب الثقالي في النهاية، ستتجمّع المادة والطاقة مع بعضهما وستنضغطان ضمن نقطة مفردة متاخمة رجوعاً إلى الوراء إلى لحظة الانفجار الكبير. وقد أطلق العلماء على هذا الانهيار الكوني الهائل اسم "الانكماش الكبير Big Crunch".
في لحظة الانكماش الكبير، يعتقد أغلب العلماء أنّ الكتلة/الطاقة اللتان تكوّنان كوننا ستندمجان مع بعضهما وتنفجران مجدداً لتشكيل انفجار كبير آخر. هذه النظرية _أنّ الكون المضغوط والمحصور في حيّز صغير من المكان سيندمج_ تقوم أساساً على فهمنا لظاهرة السوبرنوفا، التي تنهار على ذاتها، تتراجع أو تنكمش نحو الخلف. ثمّ تنفجر باستعار.
هناك نماذج نظرية أخرى وأحدث يبدو أنّها تشير إلى أنّ الكون قد يستمرّ في تمدّده إلى الأبد، إلى ما لانهاية، ولا ينكمش أو ينهار. برأيي الخاص، الذي يستحق وقفة للتأمّل، حتى يقدّم لنا علماء الفلك والكوزمولوجيا تفاصيل دقيقة ووافية عن طبيعة ونوعية وكمية مايسمى عادةّ بـ"المادّة المظلمة Dark Matter" و"الطاقة المظلمة Dark energy" _واللتان تشكّلان حوالي 90% من مجمل الكتلة/الطاقة في الكون_ لايحق لأي عالم الزعم والادعاء بأنّه يمتلك "الجواب النهائي" لهذا اللغز. في الوقت الحالي، ربما يكون الكون مازال في خضمّ المراحل الأولية في عملية توسّعه، أو ربّما يكون قد توسّع وانهار على نفسه ملايين ومليارات المرات قبل حالته الحالية. فبالرغم من أننا في فجر القرن الحادي والعشرين، مازالنا لانعرف شيئاً. لكن يمكننا أن نتوصّل لنتيجة _اعتماداً على قوانيننا الفيزيائية الحالية_ مفادها أنّ كوننا المكوّن من كتلة/طاقة أقد بكثير وبشكل لامتناهي ممّا يعتقده أغلب البشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق