الدين تحت مجهر العلم

الدين تحت مجهر العلم

Translate

الاثنين، 16 نوفمبر 2015

الغزو العربي لشمال إفريقيا ، (الغزوة السادسة ، 69 للهجرة) 

 

 

اضطرب الحال في المشرق ، وانشغل بنو أمية في إخماد ثورة عبد الله بن الزبير في الحجاز، والتجأ عبد الملك بن مروان تكليف سيفه البتار.. ( الحجاج بن يوسف الثقفي) لإخماد ثورته ، فحاصر مكة وضربها بالمنجنيق ، وحز رأس عبد الله بن الزبير قرب أستار الكعبة ، وأرسله سريعا للخليفة بدمشق، يبشره بالإنتصار ، ليضاف رأسه إلى رؤوس المناوئين للدولة داخل خزانة خاصة داخل القصر تعرف (بخزانة الرؤوس) ، وبهذا النجاح تفرغ الخليفة للجبهة الغربية ، التي مني فيها جيش العرب بضربة قاصمة أعادته إلى الصفر ،وأخرجته من إفريقيا مدحورا ، بتراجع جندالعرب المسلمين مفزعوين أمام تقدم آكسل بجيشه نحو القيروان، فغادروها مكرهين باتجاه (برقة ) ، في انتظار المدد الذي لم يصلهم إلا بعد خمس سنين ، وبعد استتباب الأمر للخليفة عبد الملك المرواني .
**من هو زهير بن قيس البلوي :
يتسب الى ( بلى) وهي قبيلة قضاعة أبو شداد ، فيقال زهير بن قيس البلوي ، صحابي ، شارك في فتح مصر أيام عمرو بن العاص ، وكان ملازما لعقبة بن نافع ، الذي استخلفه على القيروان في حملته الثانية على إفريقية ، انسحب من القيروان بعد مقتل عقبة في تاهودة ، وأقام ببرقة ليبيا في انتظار أوامر الخلافة الأموية مدة خمس سنوات ،عينه الخليفة على إمارة إفريقية لغزوها والإنتقام من آكسل قائلا ( لا يصلح للطلب بثأر عقبة بن نافع من المشركين إلا من هو مثله ، وأعرف الناس بسيرته ، وأولاهم بطلب ثأره )[1] خاض معركة ناجحة ضد ( آكسل ) ، وتراجع إلى الشرق لأسباب مجهولة ، واصطدم أثناء تراجعه قاصدا مصر مع البزنطيين قرب برقة ، فقتل ودفن هناك مع كثير من أصحابه .
**الغزوة السادسة ... أو غزوة الإنتقام.
*لم أكن أتوقع بأن العرب المسلمين يبلغ بهم التهور إلى معالجة الخطأ بالخطأ ، أي أن يكون الإنتقام من ( آكسل ) الأمازيغي المسلم بتجهيزجيش ضخم من الأمازيغ المسلمين يقدر بألفي مقاتل [2] ومعهم العرب الوافدين والمقيمين في برقة ، وأمده الخليفةُ ُ زهيرًا بالخيل والرجال والأموال ، وحشد إليه وجوه العرب ، فوفدت القوات عليه تباعا ، وكان الإستعداد عظيما ، وانطلقت الحملة لغزو جديد متجدد مرورا بنفس المسلك الذي سبق وأن مرت عليه الغزوات السابقة ، قرب السواحل ، وتخلف وراء زهير في برقة ، عدد من العرب ( أصحاب الذراري والأثقال ) ، تخلفوا هناك ليروا مايكون من أمر زهير مع آكسل (كسيلة) ، فإن انتصر مضوا إلى إفريقية ، وإلا فهم على مقرب من مصر ، سهل عليهم إدراكها في حالة الهزيمة ، أفضى زهير إلى القيروان وعسكر بجواره دون أن يدخُله ، وقد يكون ذلك خوفا من كمين مرتقب ، ويبدوا أن البزنطيين المرابطين في بعض الثغور البحرية الشمالية كانوا ينتظرون ما ستسفر عليه المواجهة بين آكسل وزهير ، فمهما كانت نتيجتها فهي تخدمهم ، لأنها سبيل للتخلص من الإثنين .
* لما علم آكسل بتقدم الجيش العربي والإسلامي نحوه لقتاله ، شاور قيادته قائلا :( قد رأيت أن أرحل إلى ( ممش) فأنزلها ، فإن بالقيروان خلقا كثيرا من المسلمين ، ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ،ونخاف إن قاتلنا زهيرا أن سيثبت هؤلاء من ورائنا ،فإذا نزلنا ( ممش)أمناهم وقاتلنا زهيرا ، فإن ظفرنا بهم تبعناهم إلى طرابلس وقطعنا أثرهم من إفريقية ، وإن ظفروا بنا تعلقنا بالجبال ونجونا ، فأجابوه لذلك ، ورحل إلى ممش) [3] ويتضح من قول آكسل أنه في حالة دفاع شرعي وهو مسلم ، مصداقا لقوله تعالى (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [4]، فهي حرابة أكثر منها جهاد في سبيل الله ، والتحم الجيشان في ممش المذكورة ( قرب قصر عبيدة ) ، واشتد القتال ، وكثر القتل في الجانبين ، وانجلت الحرب عن قتل كسيلة ( آكسل ) وجماعة من أصحابه ، وانهزم من بقي منهم ، فتبعهم الجبش العربي الإسلامي ، فقتلوا من أدركوه ، فذهب رجال البربر ( الأمازيغ) وأشرافهم وملوكهم في هذه الوقعة ، وعاد زهير إلى القيروان [5] ، وهذه المعركة خاضها الأمازيغ دون الروم ، ويذكر المالكي بأن ( العرب تمادت في طلبهم حتى سقوا خيلهم من ملويه) [6] ، أي أن هناك مطاردة لفلول الأمازيغ الفارين حتى حدود نهر ملوية ، وهذا الإنهزام كان شديد الأثر على الأمازيغ ،( ففي هذه الوقعة ( المعركة ) ذُل البربر ( الأمازيغ) وفنيت فرسانهم ورجالهم ، وخفت شوكتهم ) [7] وأصيبت العامة برعب كبير فلجأوا للإحتماء بالحصون والقلاع ، وهو ما يطابق ما تأثر له العرب بعد مقتل عقبة ومن معه في تهودة ، وفي كلتا الموقعتين سقط رجال أشراف ما كان ليسقطوا لو كان تغليب الحكمة وتطبيق أوامر الرحمن ، في حسن التعامل مع أهالي الأوطان التي تم غزوها .
* الحقائق المستقاة من أقوال المؤرخين تشير أن غزوة زهير بن قيس البلوي سنة 69 للهجرة ، هي غزوة من أجل رد الإعتبار للعرب، وهي موجهة بقصد الإنتقام من قتلة عقبة بن نافع ، فغاياتها دنيوية ، وصراع سلطوي سياسي ، بعيد كل البعد عن الدين ، وقد يكون من ورائها أهداف تأتي عرضا كاسترجاع النفوذ على القيروان ، واسترجاع مواقع كانت تحت قبضة العرب المسلمين، وأفضل تسمية لها هي غزوة الإنتقام .
*نجحت الحملة في تقسيم الأمازيغ الى فئتين ، فئة مسلمة رفعت السيف ضد الفئة الكافرة ، فتغلبت قيم الدين على قيم المواطنة ، فأصبح الأمازيغي المسلم يقاتل الأمازيغي الكافر، وهو ما يعني تمزيق الوحدة الوطنية بظهور قيم هواياتية جديدة على مسرح الأحداث ، تستبدل قيما راسخة في حب الوطن ، بقيم جديدة هي الحب في الله .... وهو ما خلق تذبذبا في الرأي وانقساما في المجتمع بين أمازيغ الشمال ( البرانس ) وأمازيغ الجنوب ( البتر) ، وإن كان كلاهما تبادلا مهمة مقاومة الغزو العربي بقيادة آكسل البرنسي ، وديهيا أو ( تيهيا) البترية لحين ، وهو ما يشير إليه المستشرق بروكلمان بقوله ( يتحتم على المسلم الأمازيغي أن يعلن العداوة على غير المسلمين( من قومه) باعتبار ذلك واجب ديني [8].
* بُعد نشر الإسلام اختفى كلية من أجندة الدولة الأموية ، وإن ظهر فهو يظهر ثانويا باهتا ، والحملة بقيادة زهير وحسب ما ذكره المؤرخ العربي نفسه ، لم تكن هادفة لإدخال المزيد من الأمازيغ في الديانة الإسلامية ، وإنما لترهيبهم وتمزيق وحدتهم ، وإخضاعهم لقوة السيف بملاحقتهم حتى حدود نهر ملوية للإنتقام من قتلة عقبة وأصحابه ، وقد وصموا الإسلام ولوثوه بإهانات جديدة بأن جعلوه ديانة انتقام لا ديانة تسامح .
*السؤال المحير في هذه الحملة هو :لماذا تراجع زهير بن قيس البلوي بجيشه نحو مصر بمجرد الإنتقام من آكسل ( كسيلة) وتشتيت جمعه في موقعة ( ممش) ، هل قتل كسيلة هو الهدف والغاية ؟ أم نشر الإسلام على نطاق أوسع في بلاد تامازغا ؟ أم أن التراجع يخفي وراءه تفسيرات أخرى ،منها الخوف من رفاهية وبذخ القيروان التي ستدفع زهيرا الى حياة الدعة والرفاهية أو قد تخلق له طموحا لتولي الولاية انتزاعا ، وهو القائل ( إنما قدمت للجهاد ، واخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك ، وكان عابد زاهدا )[9] فالرجل التقي الورع الذي جاء للجهاد في سبيل الله ، لم يبق أمامه بعد انجاز المهمة التي أوكلت إليه سوى الرجوع إلى مصر ؟ ، أو قد يكون خلافه مع والي مصر عبد العزيز بن مروان أخ الخليفة عبد الملك ضلعٌ في تراجعه بهذه السرعة ؟ ، أوقد يكون الخوف من ردة فعل أمازيغية جديدة ، قد تنتهي به إلى هلاك ،شبيه بهلاك صحبه عقبة ؟ ، إن هذه التساؤلات والتصورات قد تكون صحيحة في جوانب منها ، وقد تكون مجرد قراءات بدون معنى ، المهم أن المؤرخين لم يظهروا العلة ، وأن الفعل لا يتطابق مع حلم الدولة الأموية في الإنغراس السريع في القيروان ، لا تخاذها مركزا لانطلاق حملات الإغارة على بلاد الأمازيغ ، ولا يتجاوب مع الغاية الأساس في نشر الإسلام بالسبل السلمية ، كما فعل المهاجر دينار ، خاصة وأنه مؤهل بتقواه وورعه وتابعيته بأن يكون داع للديانة المسالمة في ربوع إفريقية ، فلو كان يبتغي الجهاد الحقيقيى، لبقي رابضا في القيروان مرسلا للفقهاء لمناطق الجوار ، ليعلم الناس مكنونات الإسلام بأبعاده ومراميه ، ودعواته للإخاء والتجانس والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات ، فجهاد السيف متروك للدفاع لا الهجوم ، ذاك هو الجهاد الأكبر في تقدير الكثير من دعاة الحق والحقيقة .

نافلة القول أن غزوة زهير بن قيس البلوي لعام 69 هجرية لأفريقية ، كانت قصيرة في مدتها ، كبيرة في قتالها وقتلها ،لا تختلف عن سابقتها ، أحدثت نكبة في صفوف المواطنين الأمازيغ الذين انصاعوا لفكر قتال ذويهم ، فتحول الدين عندهم من مصدر محبة ، إلى مصدر تنافر وتناكر وتقاتل ، فأصبح المواطنون الأمازيغ بين نيران العداوة الخارجية مستلهمون ، وما حققه زهير من انتصار لا يحسبُ نصرا للإسلام ،بقدر ما يحسب انتصارا للعربان ، الذين جعلوا للحملة غاية هي الانتقام ، وما وقع ويقع وهو تفنيد لغرس غُرس فينا من باب التعاطف يقول : أن الإسلام انتشر بيننا سلما لا كرها ، والتاريخ بشواهده يقول ( ما من بلد دخلها الغزاة العرب إلا وانتفضت عليهم مرة أو مرات ...) ؟ ويورد الطبري كثير من الشواهد الدالة عن ذلك في تاريخه ، ولعل في الإرتدادات والإنتفاضات المتكررة، ما يسفهُ خرافة انتشار الإسلام سلما في شمال إفريقيا .

المراجع والهوامش *************************.
[1] النويري ، نهاية الإرب ..، ص 73.
[2] المالكي ، رياض النفوس ، ص9.
[3] ابن الأثير ، أسد الغابة ، ج4 ، ص 44.
[4]سورةالبقرة ، الآية 190.
[5] النويري ، نهاية الإرب ، ص73.
[6] المالكي ، رياض النفوس ، ص 10.
[7]ابن خلدون ، العبر.... ج6 ، ص 142.
[8]كارل بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلامية ، ص 78.
[9] ابن الأثير ، أسد الغابة ، ج4 ، ص 44.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق